تقول غلاة المعتزلة : فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم. فيقول المصنف: إن هذا من التناقض، وليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه لكنه لم يوقعه، ولو أوقعه لكان المعلوم عند الله وقوعه، لكن الشيخ رحمه الله فصّل فيها، ومن الممكن أن تختصر في جملة أو جملتين، كما في قوله رحمه الله: "وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه"، وهذا هو أصل القضية عند غلاة المعتزلة وأشباههم، قالوا: كيف لو وقع والله قد علم أنه لا يقع؟ قلنا: إن هذا فرضه محال باطل، وذلك بمنزلة من يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه، فكيف يمكن أن يقال هذا؟! إن هذا من التناقض، وقد أدى بهم ذلك إلى مثل هذا التهوك والتحير، وضرب كلام الله ورسوله بعضه ببعض فيما يزعمون ويظنون؛ بل أدى ذلك إلى أن يصل غلاتهم إلى إنكار العلم بالكلية؛ بناءً على أمثال هذه النظرات الضيقة والظنون والخيالات الكاذبة، وهي ليست من العقل والأدلة المنطقية والبراهين في شيء.
قال المصنف: [فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً].
بمعنى: أي شيء يعلم الله أنه لا يقع فمحالٌ أن يقع، وهذا كلام صحيح، قالوا: إذاً ليس مقدوراً للعبد أنه يفعله، بمعنى: أنهم إما أن يجعلونا نثبت قدرة العبد، فيلزمونا بإثباتنا قدرة العبد أن نثبت أنه قادر على تغيير علم الله تبارك وتعالى، وإذا قلنا: إنه ليس مقدوراً للعبد، قالوا: ما دام أن الله سبحانه وتعالى علم عدم وقوعه فمستحيل أن يقع، إذاً العبد عاجز، وليس مقدوراً له أن يفعل، فكأنكم جبرية .
ويرد عليهم بإيجاز كما قال الشيخ رحمه الله: "لفظ المحال مجمل"، فماذا يقصدون بمحال أو مستحيل؟ هل هو محال لأن ما كتب الله أنه لا يقع فلن يقع؟ فهذا حق، وهذا لا ينافي القدرة، أو محال غير مقدور؛ لأن العبد لا يفعل؟ فنقول: إن العبد يستطيع، ولا ملازمة بين قدرة العبد وعلم الرب، فالله سبحانه وتعالى يعلم أن العبد لن يفعل كذا مع إعطائه القدرة على أن يفعل، ويعلم أنه يفعل مع إعطائه القدرة على غير ذلك، فالقدرة موجودة عند العبد في الحالتين، فلا تلازم بين علمه تعالى وبين قدرة العبد.
[وهذا ليس محالاً؛ لعدم استطاعته له، ولا لعجزه عنه، ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع]، فإن أي إنسان علم الله منه أنه لن يفعل هذا الشيء سواء كان طاعة أو معصية، فإن العبد في ذاته قادر على هذا الفعل، والفعل في ذاته ليس مستحيلاً؛ بل هو مقدور مستطاع.
[ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع، وإن لم يقع كان الله عالماً بأنه لا يقع] فالقدرة موجودة سواء فعل العبد أو لم يفعل؛ فإن فعل ففي علم الله أنه سيفعل، وإن لم يفعل ففي علم الله أنه لن يفعل، بمعنى: أن العلم مطابق للواقع، أما القدرة فهي موجودة في الحالين.
" فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال!
ومما يُلزم هؤلاء: ألا يبقى أحد قادراً على شيء لا الرب ولا الخلق؛ فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه".
نقول: ولو قلنا هذا الكلام أيضاً في حق الله تعالى، فإن الله تعالى له صفتا العلم والقدرة، فإذا كان سيفعل شيئاً ما، فلا يعني ذلك أنه غير قادر عليه، فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يفعل أي شيء، وقادر على أن لا يفعله سبحانه وتعالى، لكن علمه شيء وقدرته شيء آخر، كما أن علم الله تعالى شيء وقدرة العبد شيء آخر، ولا ملازمة بين هذين.
[فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أن لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده والله تعالى أعلم].
فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق آدم عليه السلام يعلم أنه سيخلقه، ولن يقع إلا ما علم سبحانه وتعالى، لكن: هل يعني ذلك أنه لا يقدر على ترك الفعل؟ لا. إن القدرة موجودة، لكن الله عز وجل قدر أن الفعل يكون، وكذلك الأمر الذي يريد الله تعالى أن لا يفعله، فإن القدرة على فعله أيضاً موجودة، لكن الله عز وجل لم يشأ أو لم يرد أن يفعله "فكذلك ما قدره من أفعال عباده" إذاً: فإنه لا ملازمة بين العلم والقدرة لا في حق المخلوقين ولا في حق الخالق سبحانه وتعالى، وليس هناك دليل لا للمعتزلة القدرية ولا للجبرية .. بل يجب على الجميع أن يؤمنوا بعلمه سبحانه وتعالى، وإثبات علم الله سبحانه وتعالى لا يستلزم الجبر كما تزعم الجبرية، فإنهم يقولون: ما دام أن علمه سيقع فإن العبد مجبور.
فعلم الله سبحانه وتعالى شيء، وقدرة العبد التي أعطاه الله عز وجل إياها شيء آخر، لكنه يعلم أنه سيفعل أو لن يفعل هذا شيء، وكذلك بالنسبة لفعله سبحانه وتعالى، فهو عز وجل يقدر أن يفعل شيئاً ما ولن يقع إلا ما علم أنه سيفعله، مع أنه عز وجل يقدر على ألا يفعل، وكذلك العبد، فلا منافاة لا في حق العبد ولا في حق الرب سبحانه وتعالى بين العلم وبين القدرة؛ لأن القدرة والاختيار شيئان يرجح بهما العبد أحد الطرفين: إما الفعل وإما عدم الفعل.. إما الطاعة وإما المعصية.
القدرة والاختيار أعطاها الله سبحانه وتعالى للعباد جميعاً، ولولا ذلك لما كان هناك حساب ولا ثواب ولا اختبار وامتحان وابتلاء للإنسان، وإلا فهل يمكن أن نجعل حركات الإنسان الذي يتخبطه الشيطان من المس، والنائم الذي يحرك يديه ورجليه ولا يدري عن شيء من ذلك، أو المكره المرغم الذي يكره فيحرك يديه أو رجليه بالقوة.. هل يمكن أن نجعل هذه الحركات كحركات من يفعل ذلك وهو مريد مختار متعمد؟ لا. ليس هذا مثل هذا، فلا يمكن أن يكون الأمر جبراً كما تظن الجبرية، وإنما الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان هذه الحرية وهي مناط الابتلاء والاختيار ((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ))[الكهف:29]، فإن آمن فله الثواب، وإن كفر فله العقاب، والعقاب قد يسمى أيضاً ثواباً؛ فجزاؤه إما الجنة وإما النار، بحسب ما يختار ويعمل له.
ويجب علينا أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما سنختار، فنحن الذين اخترنا، لكن هو عز وجل يعلم ما سوف نختار، ولا منافاة بين هذا وهذا، ولا تلازم بأنه لابد إما أن نثبت القدرة للعبد فيغير علم الله، كما تقول المعتزلة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وإما أن نثبت علم الله فالعبد مجبور مسكين لا يقدر على شيء كما تقول الجبرية، هذا باطل وذاك باطل، والحق وسط بينهما وهو.. أن العبد لديه القدرة على الفعل وعدمه: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا))[الإنسان:30]، فإن فعل ففي علم الله أنه يفعل، وإن لم يفعل ففي علم الله أنه لا يفعل. هذا باختصار، والأمر لا يحتاج إلى إطالة أكثر من ذلك.